كتاب كلماتالقصص والروايات والمجلّات

كتاب كلمات

تضمُّ صفحاتُ هذا الكتاب، تأملاتٍ متواليةً استغرقتُ فيها لأوقاتٍ طوالٍ، محدِّقاً فى (المفردات) التى تجرى على الألسنة. وهى مفرداتٌ تبدو للوهلة الأولى محدودةَ الدلالة بسيطة المعنى ، غير أن التأمل فيها، يكشف عن الكثير من المعانى المضمرة، والشواهد المؤكِّدة أن (التواصل) بين المراحل الثقافية المتعاقبة، إنما يظهر على استحياءٍ وعلى نحوٍ من الغموض، فى عديد من الدلائل التى تخفيها اللغة بين طيَّات كلماتها وتعبيراتها. ولذلك، فالناسُ فى بلادنا تجرى على ألسنتهم كلمات، معظمها عامىٌّ وبعضها فصيحٌ ، يستعملونها فى حياتهم بيسرٍ وتلقائيةٍ (وأحياناً باستهانة) من دون أن يدروا بما تخفيه الكلمة بين حروفها من معنى عميق ، بل طبقات متراكبة من المعانى ، تراكمت بفعل الامتداد الطويل لتاريخنا الثقافى . والكلمات عموماً، هى رَسْمُ العالم فى الأذهان. فالوعى الجماعى والفردى يصوغ صورة العالم فى الذهن، عبر عدد من الكلمات التى تتألف منها اللغة . ولذلك فإننا حين نفكِّر، وحين ندرك، وحتى حين نحلم؛ فإننا نقوم بتلك الأنشطة الذهنية كلِّها، من خلال اللغة والكلمات .. ومن ثمَّ، فالكلمات هى مفاتيحُ المعرفة، وهى حدودُ المعانى، وهى وجودُ الأشياء فى العقل الإنسانى، وربما فى العقل الإلهى أيضاً! بحسب ما جاء فى الآية القرآنية البديعة ]قُل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى، ولو جئنا بمثله مدداً[ ونلاحظ هنا أن (كلمات ربى) تكرَّرت، مرتين ، لتوكيد هذا المعنى العميق الدال على أن الكلمات هى الوجود، وللإشارة إلى أن كلمات الله هى أمرٌ يفوق الإدراك والإحاطة. ولذا، نرى (المسيح) على جلال قدره، يوصف فى القرآن بأنه: كلمةٌ من الله . من هذه الزاوية ننظر فى الكلمات فنراها أبواباً واسعة للفهم، وسُبلاً فسيحة للمعرفة. سواءٌ كانت معرفة ظاهرة بوضوح فى الألفاظ، أو معارف دقيقة ومدهشة، كامنة فى الكلمات، على ما سوف نراه فى (موضوعات) هذا الكتاب .. ومن المهم هنا، الإشارة إلى أننى أفرِّق تفرقةً خاصة ما بين اللفظ والكلمة، باعتبار أن (اللفظ) هو المقولُ بشكل عام، وهو كل ما يُنطق به؛ سواء كان له معنى فى ذاته أم لا . فاللفظُ (صوتٌ) يدل على أمرٍ يخص المتلفِّظ، مثلما هو الحال فى الزفرات التى يُصدرها المحزون والمكلوم والمأزوم، التى يكون (المعنى) فيها مرتبطاً بالضرورة، بالشخص المتلفِّظ بهذا (الصوت) أو ذاك، فلا يمكن إدراك الدلالة إدراكاً تاماً ، إلا بالإضافة إليه والعطف عليه . وقد يدل (الصوت) على معنى عام تواضعت عليه الجماعة واعتادت، كما هو الحال فى (التأوُّه) الذى يدلُّ لفظُهُ (آه) على الشكوى أو البوح أو تبريح الجوى . وقد يدلُّ أيضاً على الاستحسان أو الموافقة ، أو لوم المحبوب إذا قلنا له مثلاً : آهِ منك .. وفى هذه الحالة ومثلها الكثير، يكون (المعنى) قد ارتبط فى اللفظ، بحال الفاعل تخصيصاً. فما يدلُّ بصاحبه، فهو (لفظ) حتى وإن كان مركباً من عدة أصوات. أما الذى يدل بذاته، بصرف النظر عن قائله؛ فهو (كلمة) حتى وإن كانت بسيطة التركيب، محدودة الصوت. وعلى ذلك، فالكلمة عندى، هى كُلُّ ما له معنىً مستقلٌ عن المتلفِّظ .. ولذلك، فإن كُلَّ (كلمة) لفظٌ، ولكن ليس كل (لفظ ) كلمةٌ . * * * وتضم صفحات هذا الكتاب ، أطرافاً متنوعة تسعى لتبيان معانى (كلمات) خصَّصنا لكل كلمة منها فصلاً قد يطول أو يقصر، بحسب ما يلزمه الغوص فى طبقات المعانى المحتجبة خلف هذه الكلمة أو تلك ، مهما كانت قليلة الحروف. مثلما هو الحال فى كلمة بدء الوجود (كن) التى ابتدأنا بها فصول الكتاب. وكان ابتداءُ هذا المسار، سلسلةً من المقالات التى نشرتها، ومازلتُ أنشرها أسبوعياً، بجريدة الوفد المصرية. وكانت فكرتى الأولى الداعية إلى كتابتها، أن أتوقف كل أسبوع عند واحدة من الكلمات، للنظر فى معانيها العميقة. ثم تطوَّر الأمر إلى بحث الحدود الدلالية للكلمات، لتعميق الوعى باللغة التى نستخدمها، وللنظر فى (انقلاب) المعنى فى الكلمة الواحدة أحياناً، من الضد إلى الضد، حتى أننا نستخدم أحياناً (كلمات) قاصدين بها معنىً معاصراً، هو فى واقع الأمر نقيضُ المعنى الأصلى للكلمة. وقد أشار لى بعض الأصدقاء، بضرورة نشر المقالات فى كتاب. فكنتُ أتعلَّل بأن الأمر لا يستحق، فما هى إلا خطراتٌ ونظراتٌ استشرافية، فى حدود المعانى المترامية بقلب هذه الكلمة أو تلك . ولما اتسع المدى مع دخول مقالاتى الأسبوعية عامها الثانى، ومع تعمُّق النظر فى معانى الكلمات، لم يعد التعلُّل مقنعاً . خاصةً مع اضطرارى للإيجاز فى كتابة عديد من تلك المقالات، حتى تتناسب مع المساحة المخصصة للنشر، مع ما يقتضيه ذلك من إهدار لكثيرٍ من المعانى، التى كان يجب الوقوف عندها فى هذه الكلمة أو تلك. وبالطبع، فمن شأن (الإيجاز) أن يخلَّ أحياناً بالمعنى، ويقلِّل من الأهمية الدلالية للكلمات. ومن طبيعة النشر فى الصحف، أنه قد يختلُّ سياقه مع إسقاط بعض العبارات والفقرات عن عمد أو غير عمد، وقد تتشوَّش الفكرة مع الأخطاء المطبعية التى صارت فى جرائدنا كلها ، أمراً لا غنى عنه ! ولذلك اقتضى نشر (الكلمات) فى هذا الكتاب، إعادة بناء للنصوص السابق نشرها كمقالات، وإعادة كتابة بعضها كليةً. وقد نشرتها هنا، كاملةً، بما فى ذلك بعضها الذى ما كان من الممكن أن يُنشر هناك. وعلى ذلك، فإن فصول هذا (الكتاب) هى الصورة الأقرب لناتج النظر فى مدلولات الكلمات، ولنتائج التأملات والمناقشات التى أعقبت نشرها مسلسلةً . وقد جعلتُ العنوان الجانبى للكتاب (التقاط الألماس..) انطلاقاً من أن عديداً من الكلمات، صار بحكم تراكم الطبقات المعرفية فوقه، مثل فحم الأرض الذى صار ألماساً، لما طال عليه الأمدُ .. وما كل الكلام ألماساً، وإنما هى مفردات بعينها، التقطتها كما. تُلتقط فصوص الألماس، من كلام الناس .
يوسف زيدان - يوسف محمد أحمد طه زيدان مفكر وفيلسوف مصري متخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه ، له عديد من المؤلفات والأبحاث العلمية في الفكر الإسلامي والتصوف وتاريخ الطب العربي . ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ عفيف الدين التلمساني (الجزء الأول) ❝ ❞ كلمات ..التقاط الالماس من كلام الناس ❝ ❞ عزازيل ❝ ❞ دوامات التدين ❝ ❞ متاهات الوهم ❝ ❞ النبطي ❝ ❞ حاكم جنون ابن الهيثم ❝ ❞ كلمات ❝ ❞ ظل الأفعى ❝ الناشرين : ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار الرواق للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ الهيئة المصرية العامة للكتاب ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ دار نون للنشر والتوزيع ❝ ❞ الهيئة العامة لقصور الثقافة ❝ ❞ ن للنشر والتوزيع ❝ ❞ بوك فاليو ❝ ❱
من كتب الروايات والقصص - مكتبة القصص والروايات والمجلّات.

وصف الكتاب : تضمُّ صفحاتُ هذا الكتاب، تأملاتٍ متواليةً استغرقتُ فيها لأوقاتٍ طوالٍ، محدِّقاً فى (المفردات) التى تجرى على الألسنة. وهى مفرداتٌ تبدو للوهلة الأولى محدودةَ الدلالة بسيطة المعنى ، غير أن التأمل فيها، يكشف عن الكثير من المعانى المضمرة، والشواهد المؤكِّدة أن (التواصل) بين المراحل الثقافية المتعاقبة، إنما يظهر على استحياءٍ وعلى نحوٍ من الغموض، فى عديد من الدلائل التى تخفيها اللغة بين طيَّات كلماتها وتعبيراتها. ولذلك، فالناسُ فى بلادنا تجرى على ألسنتهم كلمات، معظمها عامىٌّ وبعضها فصيحٌ ، يستعملونها فى حياتهم بيسرٍ وتلقائيةٍ (وأحياناً باستهانة) من دون أن يدروا بما تخفيه الكلمة بين حروفها من معنى عميق ، بل طبقات متراكبة من المعانى ، تراكمت بفعل الامتداد الطويل لتاريخنا الثقافى .

والكلمات عموماً، هى رَسْمُ العالم فى الأذهان. فالوعى الجماعى والفردى يصوغ صورة العالم فى الذهن، عبر عدد من الكلمات التى تتألف منها اللغة . ولذلك فإننا حين نفكِّر، وحين ندرك، وحتى حين نحلم؛ فإننا نقوم بتلك الأنشطة الذهنية كلِّها، من خلال اللغة والكلمات .. ومن ثمَّ، فالكلمات هى مفاتيحُ المعرفة، وهى حدودُ المعانى، وهى وجودُ الأشياء فى العقل الإنسانى، وربما فى العقل الإلهى أيضاً! بحسب ما جاء فى الآية القرآنية البديعة ]قُل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى، ولو جئنا بمثله مدداً[ ونلاحظ هنا أن (كلمات ربى) تكرَّرت، مرتين ، لتوكيد هذا المعنى العميق الدال على أن الكلمات هى الوجود، وللإشارة إلى أن كلمات الله هى أمرٌ يفوق الإدراك والإحاطة. ولذا، نرى (المسيح) على جلال قدره، يوصف فى القرآن بأنه: كلمةٌ من الله .

من هذه الزاوية ننظر فى الكلمات فنراها أبواباً واسعة للفهم، وسُبلاً فسيحة للمعرفة. سواءٌ كانت معرفة ظاهرة بوضوح فى الألفاظ، أو معارف دقيقة ومدهشة، كامنة فى الكلمات، على ما سوف نراه فى (موضوعات) هذا الكتاب .. ومن المهم هنا، الإشارة إلى أننى أفرِّق تفرقةً خاصة ما بين اللفظ والكلمة، باعتبار أن (اللفظ) هو المقولُ بشكل عام، وهو كل ما يُنطق به؛ سواء كان له معنى فى ذاته أم لا . فاللفظُ (صوتٌ) يدل على أمرٍ يخص المتلفِّظ، مثلما هو الحال فى الزفرات التى يُصدرها المحزون والمكلوم والمأزوم، التى يكون (المعنى) فيها مرتبطاً بالضرورة، بالشخص المتلفِّظ بهذا (الصوت) أو ذاك، فلا يمكن إدراك الدلالة إدراكاً تاماً ، إلا بالإضافة إليه والعطف عليه . وقد يدل (الصوت) على معنى عام تواضعت عليه الجماعة واعتادت، كما هو الحال فى (التأوُّه) الذى يدلُّ لفظُهُ (آه) على الشكوى أو البوح أو تبريح الجوى . وقد يدلُّ أيضاً على الاستحسان أو الموافقة ، أو لوم المحبوب إذا قلنا له مثلاً : آهِ منك .. وفى هذه الحالة ومثلها الكثير، يكون (المعنى) قد ارتبط فى اللفظ، بحال الفاعل تخصيصاً.

فما يدلُّ بصاحبه، فهو (لفظ) حتى وإن كان مركباً من عدة أصوات. أما الذى يدل بذاته، بصرف النظر عن قائله؛ فهو (كلمة) حتى وإن كانت بسيطة التركيب، محدودة الصوت. وعلى ذلك، فالكلمة عندى، هى كُلُّ ما له معنىً مستقلٌ عن المتلفِّظ .. ولذلك، فإن كُلَّ (كلمة) لفظٌ، ولكن ليس كل (لفظ ) كلمةٌ .

* * *

وتضم صفحات هذا الكتاب ، أطرافاً متنوعة تسعى لتبيان معانى (كلمات) خصَّصنا لكل كلمة منها فصلاً قد يطول أو يقصر، بحسب ما يلزمه الغوص فى طبقات المعانى المحتجبة خلف هذه الكلمة أو تلك ، مهما كانت قليلة الحروف. مثلما هو الحال فى كلمة بدء الوجود (كن) التى ابتدأنا بها فصول الكتاب.

وكان ابتداءُ هذا المسار، سلسلةً من المقالات التى نشرتها، ومازلتُ أنشرها أسبوعياً، بجريدة الوفد المصرية. وكانت فكرتى الأولى الداعية إلى كتابتها، أن أتوقف كل أسبوع عند واحدة من الكلمات، للنظر فى معانيها العميقة. ثم تطوَّر الأمر إلى بحث الحدود الدلالية للكلمات، لتعميق الوعى باللغة التى نستخدمها، وللنظر فى (انقلاب) المعنى فى الكلمة الواحدة أحياناً، من الضد إلى الضد، حتى أننا نستخدم أحياناً (كلمات) قاصدين بها معنىً معاصراً، هو فى واقع الأمر نقيضُ المعنى الأصلى للكلمة.

وقد أشار لى بعض الأصدقاء، بضرورة نشر المقالات فى كتاب. فكنتُ أتعلَّل بأن الأمر لا يستحق، فما هى إلا خطراتٌ ونظراتٌ استشرافية، فى حدود المعانى المترامية بقلب هذه الكلمة أو تلك . ولما اتسع المدى مع دخول مقالاتى الأسبوعية عامها الثانى، ومع تعمُّق النظر فى معانى الكلمات، لم يعد التعلُّل مقنعاً . خاصةً مع اضطرارى للإيجاز فى كتابة عديد من تلك المقالات، حتى تتناسب مع المساحة المخصصة للنشر، مع ما يقتضيه ذلك من إهدار لكثيرٍ من المعانى، التى كان يجب الوقوف عندها فى هذه الكلمة أو تلك. وبالطبع، فمن شأن (الإيجاز) أن يخلَّ أحياناً بالمعنى، ويقلِّل من الأهمية الدلالية للكلمات.

ومن طبيعة النشر فى الصحف، أنه قد يختلُّ سياقه مع إسقاط بعض العبارات والفقرات عن عمد أو غير عمد، وقد تتشوَّش الفكرة مع الأخطاء المطبعية التى صارت فى جرائدنا كلها ، أمراً لا غنى عنه ! ولذلك اقتضى نشر (الكلمات) فى هذا الكتاب، إعادة بناء للنصوص السابق نشرها كمقالات، وإعادة كتابة بعضها كليةً. وقد نشرتها هنا، كاملةً، بما فى ذلك بعضها الذى ما كان من الممكن أن يُنشر هناك. وعلى ذلك، فإن فصول هذا (الكتاب) هى الصورة الأقرب لناتج النظر فى مدلولات الكلمات، ولنتائج التأملات والمناقشات التى أعقبت نشرها مسلسلةً .

وقد جعلتُ العنوان الجانبى للكتاب (التقاط الألماس..) انطلاقاً من أن عديداً من الكلمات، صار بحكم تراكم الطبقات المعرفية فوقه، مثل فحم الأرض الذى صار ألماساً، لما طال عليه الأمدُ .. وما كل الكلام ألماساً، وإنما هى مفردات بعينها، التقطتها كما. تُلتقط فصوص الألماس، من كلام الناس .

للكاتب/المؤلف : يوسف زيدان .
دار النشر : دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع .
سنة النشر : 2011م / 1432هـ .
عدد مرات التحميل : 4735 مرّة / مرات.
تم اضافته في : السبت , 18 يونيو 2022م.

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

تضمُّ صفحاتُ هذا الكتاب، تأملاتٍ متواليةً استغرقتُ فيها لأوقاتٍ طوالٍ، محدِّقاً فى (المفردات) التى تجرى على الألسنة. وهى مفرداتٌ تبدو للوهلة الأولى محدودةَ الدلالة بسيطة المعنى ، غير أن التأمل فيها، يكشف عن الكثير من المعانى المضمرة، والشواهد المؤكِّدة أن (التواصل) بين المراحل الثقافية المتعاقبة، إنما يظهر على استحياءٍ وعلى نحوٍ من الغموض، فى عديد من الدلائل التى تخفيها اللغة بين طيَّات كلماتها وتعبيراتها. ولذلك، فالناسُ فى بلادنا تجرى على ألسنتهم كلمات، معظمها عامىٌّ وبعضها فصيحٌ ، يستعملونها فى حياتهم بيسرٍ وتلقائيةٍ (وأحياناً باستهانة) من دون أن يدروا بما تخفيه الكلمة بين حروفها من معنى عميق ، بل طبقات متراكبة من المعانى ، تراكمت بفعل الامتداد الطويل لتاريخنا الثقافى .

والكلمات عموماً، هى رَسْمُ العالم فى الأذهان. فالوعى الجماعى والفردى يصوغ صورة العالم فى الذهن، عبر عدد من الكلمات التى تتألف منها اللغة . ولذلك فإننا حين نفكِّر، وحين ندرك، وحتى حين نحلم؛ فإننا نقوم بتلك الأنشطة الذهنية كلِّها، من خلال اللغة والكلمات .. ومن ثمَّ، فالكلمات هى مفاتيحُ المعرفة، وهى حدودُ المعانى، وهى وجودُ الأشياء فى العقل الإنسانى، وربما فى العقل الإلهى أيضاً! بحسب ما جاء فى الآية القرآنية البديعة ]قُل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى، ولو جئنا بمثله مدداً[ ونلاحظ هنا أن (كلمات ربى) تكرَّرت، مرتين ، لتوكيد هذا المعنى العميق الدال على أن الكلمات هى الوجود، وللإشارة إلى أن كلمات الله هى أمرٌ يفوق الإدراك والإحاطة. ولذا، نرى (المسيح) على جلال قدره، يوصف فى القرآن بأنه: كلمةٌ من الله .

من هذه الزاوية ننظر فى الكلمات فنراها أبواباً واسعة للفهم، وسُبلاً فسيحة للمعرفة. سواءٌ كانت معرفة ظاهرة بوضوح فى الألفاظ، أو معارف دقيقة ومدهشة، كامنة فى الكلمات، على ما سوف نراه فى (موضوعات) هذا الكتاب .. ومن المهم هنا، الإشارة إلى أننى أفرِّق تفرقةً خاصة ما بين اللفظ والكلمة، باعتبار أن (اللفظ) هو المقولُ بشكل عام، وهو كل ما يُنطق به؛ سواء كان له معنى فى ذاته أم لا . فاللفظُ (صوتٌ) يدل على أمرٍ يخص المتلفِّظ، مثلما هو الحال فى الزفرات التى يُصدرها المحزون والمكلوم والمأزوم، التى يكون (المعنى) فيها مرتبطاً بالضرورة، بالشخص المتلفِّظ بهذا (الصوت) أو ذاك، فلا يمكن إدراك الدلالة إدراكاً تاماً ، إلا بالإضافة إليه والعطف عليه . وقد يدل (الصوت) على معنى عام تواضعت عليه الجماعة واعتادت، كما هو الحال فى (التأوُّه) الذى يدلُّ لفظُهُ (آه) على الشكوى أو البوح أو تبريح الجوى . وقد يدلُّ أيضاً على الاستحسان أو الموافقة ، أو لوم المحبوب إذا قلنا له مثلاً : آهِ منك .. وفى هذه الحالة ومثلها الكثير، يكون (المعنى) قد ارتبط فى اللفظ، بحال الفاعل تخصيصاً.

فما يدلُّ بصاحبه، فهو (لفظ) حتى وإن كان مركباً من عدة أصوات. أما الذى يدل بذاته، بصرف النظر عن قائله؛ فهو (كلمة) حتى وإن كانت بسيطة التركيب، محدودة الصوت. وعلى ذلك، فالكلمة عندى، هى كُلُّ ما له معنىً مستقلٌ عن المتلفِّظ .. ولذلك، فإن كُلَّ (كلمة) لفظٌ، ولكن ليس كل (لفظ ) كلمةٌ .

* * *

وتضم صفحات هذا الكتاب ، أطرافاً متنوعة تسعى لتبيان معانى (كلمات) خصَّصنا لكل كلمة منها فصلاً قد يطول أو يقصر، بحسب ما يلزمه الغوص فى طبقات المعانى المحتجبة خلف هذه الكلمة أو تلك ، مهما كانت قليلة الحروف. مثلما هو الحال فى كلمة بدء الوجود (كن) التى ابتدأنا بها فصول الكتاب.

وكان ابتداءُ هذا المسار، سلسلةً من المقالات التى نشرتها، ومازلتُ أنشرها أسبوعياً، بجريدة الوفد المصرية. وكانت فكرتى الأولى الداعية إلى كتابتها، أن أتوقف كل أسبوع عند واحدة من الكلمات، للنظر فى معانيها العميقة. ثم تطوَّر الأمر إلى بحث الحدود الدلالية للكلمات، لتعميق الوعى باللغة التى نستخدمها، وللنظر فى (انقلاب) المعنى فى الكلمة الواحدة أحياناً، من الضد إلى الضد، حتى أننا نستخدم أحياناً (كلمات) قاصدين بها معنىً معاصراً، هو فى واقع الأمر نقيضُ المعنى الأصلى للكلمة.

وقد أشار لى بعض الأصدقاء، بضرورة نشر المقالات فى كتاب. فكنتُ أتعلَّل بأن الأمر لا يستحق، فما هى إلا خطراتٌ ونظراتٌ استشرافية، فى حدود المعانى المترامية بقلب هذه الكلمة أو تلك . ولما اتسع المدى مع دخول مقالاتى الأسبوعية عامها الثانى، ومع تعمُّق النظر فى معانى الكلمات، لم يعد التعلُّل مقنعاً . خاصةً مع اضطرارى للإيجاز فى كتابة عديد من تلك المقالات، حتى تتناسب مع المساحة المخصصة للنشر، مع ما يقتضيه ذلك من إهدار لكثيرٍ من المعانى، التى كان يجب الوقوف عندها فى هذه الكلمة أو تلك. وبالطبع، فمن شأن (الإيجاز) أن يخلَّ أحياناً بالمعنى، ويقلِّل من الأهمية الدلالية للكلمات.

ومن طبيعة النشر فى الصحف، أنه قد يختلُّ سياقه مع إسقاط بعض العبارات والفقرات عن عمد أو غير عمد، وقد تتشوَّش الفكرة مع الأخطاء المطبعية التى صارت فى جرائدنا كلها ، أمراً لا غنى عنه ! ولذلك اقتضى نشر (الكلمات) فى هذا الكتاب، إعادة بناء للنصوص السابق نشرها كمقالات، وإعادة كتابة بعضها كليةً. وقد نشرتها هنا، كاملةً، بما فى ذلك بعضها الذى ما كان من الممكن أن يُنشر هناك. وعلى ذلك، فإن فصول هذا (الكتاب) هى الصورة الأقرب لناتج النظر فى مدلولات الكلمات، ولنتائج التأملات والمناقشات التى أعقبت نشرها مسلسلةً .

وقد جعلتُ العنوان الجانبى للكتاب (التقاط الألماس..) انطلاقاً من أن عديداً من الكلمات، صار بحكم تراكم الطبقات المعرفية فوقه، مثل فحم الأرض الذى صار ألماساً، لما طال عليه الأمدُ .. وما كل الكلام ألماساً، وإنما هى مفردات بعينها، التقطتها كما تُلتقط فصوص الألماس، من كلام الناس .



نوع الكتاب : .
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:


يوسف زيدان
يوسف زيدان
Youssef Zeidan
يوسف محمد أحمد طه زيدان مفكر وفيلسوف مصري متخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه ، له عديد من المؤلفات والأبحاث العلمية في الفكر الإسلامي والتصوف وتاريخ الطب العربي . ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ عفيف الدين التلمساني (الجزء الأول) ❝ ❞ كلمات ..التقاط الالماس من كلام الناس ❝ ❞ عزازيل ❝ ❞ دوامات التدين ❝ ❞ متاهات الوهم ❝ ❞ النبطي ❝ ❞ حاكم جنون ابن الهيثم ❝ ❞ كلمات ❝ ❞ ظل الأفعى ❝ الناشرين : ❞ دار الشروق للنشر والتوزيع: مصر - لبنان ❝ ❞ دار الرواق للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ الهيئة المصرية العامة للكتاب ❝ ❞ دار الشروق ❝ ❞ دار نون للنشر والتوزيع ❝ ❞ الهيئة العامة لقصور الثقافة ❝ ❞ ن للنشر والتوزيع ❝ ❞ بوك فاليو ❝ ❱.



كتب اخرى في كتب الروايات والقصص

ظل الأفعى PDF

قراءة و تحميل كتاب ظل الأفعى PDF مجانا

محال PDF

قراءة و تحميل كتاب محال PDF مجانا

فردقان: اعتقال الشيخ الرئيس PDF

قراءة و تحميل كتاب فردقان: اعتقال الشيخ الرئيس PDF مجانا

نور PDF

قراءة و تحميل كتاب نور PDF مجانا

فقه الحب PDF

قراءة و تحميل كتاب فقه الحب PDF مجانا

فقه الثورة PDF

قراءة و تحميل كتاب فقه الثورة PDF مجانا

شعراء الصوفية المجهولون PDF

قراءة و تحميل كتاب شعراء الصوفية المجهولون PDF مجانا

عبد الكريم الجيلي PDF

قراءة و تحميل كتاب عبد الكريم الجيلي PDF مجانا

المزيد من كتب الروايات والقصص في مكتبة كتب الروايات والقصص , المزيد من روايات وقصص عالمية في مكتبة روايات وقصص عالمية , المزيد من روايات فانتازيا عربية و عالمية في مكتبة روايات فانتازيا عربية و عالمية , المزيد من أفضل مئة رواية عربية في مكتبة أفضل مئة رواية عربية , المزيد من سلسلة روايات المغامرون الخمسة في مكتبة سلسلة روايات المغامرون الخمسة , المزيد من روايات بوليسية عالمية في مكتبة روايات بوليسية عالمية , المزيد من روايات رعب في مكتبة روايات رعب , المزيد من سلسلة روايات ملف المستقبل في مكتبة سلسلة روايات ملف المستقبل , المزيد من مجلات وموسوعات في مكتبة مجلات وموسوعات
عرض كل القصص والروايات والمجلّات ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..